حُقُوقُ الْعِباَدِ وَحُقُو قُ الْعَامَّةِ


" حُقُوقُ الْعِباَدِ  وَحُقُو قُ الْعَامَّةِ "

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ الْكِرَام!

سَأَلَ الْنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ أَصْحَابَهُ الْكِرَامَ قَائِلاً "أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟" فَأَجَابَ مَنْ كَانَ هُنَاكَ مِنْ الصَّحَابَةِ "الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ" يَا رَسُولَ اللهِ. فَرَدَّ عَلَيْهِمْ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ "إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ."[1]

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ الْأَعِزَّاء!

إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ دِينُ الْحَقِّ وَالْحَقِيقَةِ وَالْقَانُونِ وَالْعَدْلِ. وَمَفْهُومُ "الْحَقِّ" يُشِيرُ إِلَى مَسْؤُولِيَّاتِنَا مِنْ جِهَةٍ وَيُعَبِّرُ كَذَلِكَ عَنْ تِلْكَ الْقِيَمِ الَّتِي يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَصُونَهَا وَنُحَافِظَ عَلَيْهَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى. وَإِنَّ الْوَحْيَ الْقُرْآنِيَّ الَّذِي تَكْمُنُ فِيهِ حَيَاتُنَا وَسَعَادَتُنَا يَدْعُونَا إِلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْحُقُوقِ وَصَوْنِهَا.

 

وَلَا شَكَّ أَنَّ "الْحَقَّ" هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى. وَبِالتَّالِي فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي يُرَاعِي الْحُقُوقَ وَيَحْفَظُهَا يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ قَدْ أَخَذَ مَكَانَهُ بِجَانِبِ الْحَقِيقَةِ وَالصَّوَابِ يَعْنِي أَنَّهُ فيِ إمْتِثَالِ أَوَامِرِ الْحَقِّ جَلَّ جَلَالُهُ  وَرِضَاهُ.

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْكِرَام!

إِنَّ الْإِنْسَانَ وَمُنْذُ أَنْ تُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ يُصْبِحُ لَدَيْهِ الْحَقَّ فِي الْحَيَاةِ. وَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُشِيرُ إِلَى هَذَا الْمَبْدَإِ بِقَوْلِهِ "...مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ اَوْ فَسَادٍ فِي الْاَرْضِ فَكَاَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَم۪يـعاًۜ وَمَنْ اَحْيَاهَا فَكَاَنَّمَٓا اَحْيَا النَّاسَ جَم۪يعاًۜ ..."[2]

لَا شَكَّ أَنَّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ الْحَقَّ فِي حِمَايَةِ مُلْكِهِ وَكَسْبِهِ وَمَالِهِ الَّذِي يَجْنِيهِ بِالطُّرُقِ الْمَشْرُوعَةِ وَالْمُحَلَّلَةِ. أَمَّا مَنْ يَكْسِبُ مَالَهُ بِطُرُقٍ غَيْرِ مَشْرُوعَةٍ وَمَنْ يَخْدَعُ زَبَائِنَهُ بِالتَّحَايُلِ وَالْخَدِيعَةِ فِي تِجَارَتِهِ وَمَنْ يَسْلُبُ حَقَّ الْعَامِلِينَ عِنْدَهُ وَلَا يَدْفَعُهُ لَهُمْ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ يَكُونُ بِلَا رَيْبٍ قَدْ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ.

وَلَا شُبْهَةَ أَيْضاً أَنَّ قِيَمَ الْإِنْسَانِ الْخَاصَّةَ وَعِرْضَهُ وَشَرَفَهُ وَدِينَهُ وَمُعْتَقَدَهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ. فَالْإِسَاءَةُ إِلَى قِيَمِ الْآخَرِ وَاحْتِقَارُهَا وَتَشْوِيهُ سُمْعَتِهِ وَالنَّيْلُ مِنْ قَدْرِهِ وَمَكَانَتِهِ بِالْكَذِبِ وَالاِفْتِرَاءِ هِيَ مِنْ بَيْنِ أَكْثَرِ الْأُمُورِ الَّتِي تُمَثِّلُ التَّعَدِّي عَلَى الْحُقُوقِ. وَإِنَّ التَّعَدِي عَلَى حُقُوقِ الْآخَرِينَ يُعْتَبَرُ جَرِيمَةً وِفْقَ قَانُونِنَا كَمَا وَيُعْتَبَرُ وَبَالاً عَظِيماً وَإِثْماً كَبِيراً فِي دِينِنَا.

 

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ الْكِرَام!

إِنَّ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْإِيمَانِ التَّعَامُلَ بِاعْتِدَالٍ وَاِنْصَافٍ وَحَقَّانِيَّةٍ فِي جَمِيعِ نَوَاحِي الْحَيَاةِ وَجَوَانِبِهَا. وَإِنَّ قِيَامَ الْمَرْءِ بِحِفْظِ حُقُوقِ الْآخَرِينَ مِنْ حَوْلِهِ مِثْلَمَا يَصُونُ حُقُوقَهُ وَيَرْعَاهَا يُعْتَبَرُ شِعَاراً وَرَمْزاً لِإِيمَانِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ يَقُومُ بِالتَّعَدِّي عَلَى حُقُوقِ الْآخَرِينَ مِنْ النَّاسِ وَحَتَّى الْحَيَوَانَاتِ وَالطَّبِيعَةِ وَذَلِكَ مِنْ أَجْلِ مَنَافِعِهِ وَمَصَالِحِهِ الشَّخْصِيَّةِ، هُوَ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ خَاسِرٌ وَمُفْلِسٌ وَإِنْ تَوَهَّمَ لِبُرْهَةٍ مِنْ الزَّمَنِ أَنَّهُ قَدْ نَالَ مَكَاسِبَهُ.

إِنَّ الْوُقُوفَ عَلَى الْحَقِّ يَسْتَوْجِبُ أَنْ يُعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ بَدْءً مِنْ أَفْرَادِ الْأُسْرَةِ الْمُقَرَّبِينَ. فَلَا شَكَّ أَنَّهَا مَسْؤُولِيَّتُنَا جَمِيعاً أَنْ نَحْتَرِمَ حُقُوقَ آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا وَأَنْ نُؤَدِّي حُقُوقَ أَزْوَاجِنَا بِكُلِّ الْحُبِّ وَالاهْتِمَامِ وَأَنْ نَحْفَظَ وَنَحْمِي حُقُوقَ أَطْفَالِنَا وَأَبْنَائِنَا بِكُلِّ شَفْقَةٍ وَرَأْفَةٍ. وَلَا شَكَّ أَيْضاً أَنَّهَا مُهِمَّتُنَا جَمِيعاً أَنْ نَبْذُلَ مَا بِوُسْعِنَا كَيْ نَحْرِصَ عَلَى عَدَمِ أَكْلِ حُقُوقِ الْآخَرِينَ فِي الْعِلَاقَاتِ بَيْنَ الْأَقَارِبِ وَالْأَهْلِ وَلَوْ بِمِقْدَارِ ذَرَّةٍ وَلاَسِيَّمَا فِي شَرِكَةِ الْأَعْمَالِ وَعِنْدَ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأُمُورِ.

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْأَعِزَّاء!

إِنَّ الْمَسَاحَةَ الَّتِي يَنْتَقِلُ عِنْدَهَا حَقُّ الْعَبْدِ لِيَعُمَّ الْمُجْتَمَعَ بِكَامِلِهِ هِيَ الْحُقُوقُ الْعَامَّةُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحُقُوقَ الْعَامَّةَ هِيَ أَمَانَةٌ تَتَطَلَّبُ مَسْؤُولِيَّةً أَكْبَرَ إِذَا مَا تَمَّ مُقَارَنَتُهَا بِحَقِّ الْعَبْدِ. وَإِنَّ خِيَانَةَ هَذِهِ الْأَمَانَةِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُلْحِقَ بِصَاحِبِهِ الْخُسْرَانَ سَوَاءً فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ. وَقَدْ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ " وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ اَنْ يَغُلَّۜ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيٰمَةِۚ ثُمَّ تُوَفّٰى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ "[3] أَمَّا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ حَذَّرَ أُمَّتَهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْأَمْرِ فَقَالَ: " لا يأخُذُ أحَدٌ شِبْرًا مِنْ الأرضِ بغيرِ حقِّهِ، إِلَّا طَوَّقَهُ اللهُ إِلى سَبْعِ أرَضِين يومَ القيامةِ"[4] كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ آخَرٍ: "مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ"[5]

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ الْكِرَام!

يَجِبُ أَلَّا نَنْسَى أَنَّ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي تَنْبَنِي عَلَى الْحَقِّ وَالْحَقَّانِيَّةِ تَكُونُ وَسِيلَةً لِلطُّمَأْنِينَةِ فِي الدُّنْيَا وَلِلْخَلَاصِ وَالنَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ. وَلْنَحْرِصْ فِي حَيَاتِنَا الشَّخْصِيَّةِ عَلَى عَدَمِ التَّعَدِّي عَلَى حُقُوقِ الْآخَرِينَ بِشَتَّى أَنْوَاعِهَا. وَلْنَحْرِصْ كَذَلِكَ عَلَى مُرَاعَاةِ حُقُوقِ الْيَتَامَى وَلْنُسَلِّمْ بِحَقِيقَةِ أَنَّ الْوَاجِبَ الْعَامَّ هُوَ أَمَانَةٌ ثَقِيلَةٌ وَشَاقَّةٌ. وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّعَدِّي عَلَى الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ وَإِهْدَارِ الْأَمْوَالِ الْخَاصَّةِ بِالْأَوْقَافِ هُوَ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ تَعَدٍّ عَلَى حُقُوقِ الْآلَافِ مِنْ الْعِبَادِ. وَلْنَحْرِصْ عَلَى أَنْ نَحْيَا وَنَحْنُ نُدْرِكُ أَنَّ أَيَّ إِهْمَالٍ وَتَقْصِيرٍ يُعْتَبَرُ تَعَدٍّ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ وَحُقُوقِ الْعَامَّةِ بَيْنَمَا يَكُونُ فِعْلُ الْخَيْرِ مَهْمَا كَانَ، سَبَباً لِنَيْلِ الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ.



[1] صَحِيحُ مُسْلِمْ، كِتَابُ الْبِرِّ، 59.

[2] سُورَةُ الْمَائِدَة، الْآيَةُ: 32.

[3] سُورَةُ آلِ عِمْرَانْ، الْآيَةُ: 161.

[4] صَحِيحُ مُسْلِمْ، كِتَابُ الْمُسَاقَاة، 141.

[5] سُنَنُ أَبِي دَاوُود، كِتَابُ الْخَرَاجِ وَالْفَيءْ وَالْإِمَارَةِ ، 9-10.

اَلْمُدِيرِيّةُ الْعَامَّةُ لِلْخدَمَاتِ الدِّينِيَّةِ

إرسال تعليق

أحدث أقدم