بارَكَ اللهُ لَكُمْ في جُمُعَتِكُمْ إِخْوانِيَ الأعِزَّاءُ!
ذاتَ يَوْمٍ أَوْمأَتِ السَّيِّدَةُ عائِشَةُ رضي الله عنها لِرَسولِ اللهِ (ص) بِأَنَّ السَّيِّدَةَ صَفِيَّةَ رضي الله عنها قَصيرَةُ القامَةِ. فَأَشارَ رَسولُ اللهِ (ص) إلى مَدى بَشاعَةِ الغيبَةِ فَأَنْذَرَها، وقال (ص): "لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ"[1].
أيُّها المُؤْمِنونَ الأَعِزَّاءُ!
الغِيبَةُ تَعني أَنْ يَذْكُرَ الإنْسانُ أَخاهُ بِما يَكْرَهُ، وَيُهينَ شَرَفَهُ وَكَرامَتَهُ في غِيابِهِ. وَالغِيبَةُ هِيَ انْتِهاكٌ لِحُقوقِ العِبادِ، وَخِنْجَرٌ يَطْعَنُ الثِّقَةَ وَالإِخْلاصَ وَالمَحَبَّةَ وَالوَحْدَةَ وَالأخُوَّةَ بِطَبيعَةِ الحالِ. وَالغيبَةُ سُلوكٌ قَبيحٌ لا يَتَوافَقُ مَعَ الإنْسانِيَّةِ، وَلا يَليقُ بِالمُؤْمِنِ، وَيَهُزُّ الفَرْدَ وَالمُجْتَمَعَ. لِذَلِكَ حَرَّمَ اللهُ تَعالى الغيبَةَ بِقَوْلِهِ تَعالى في كِتابِهِ العَظيمِ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ"[2].
إِخْوانِي!
إِنَّنا مُؤْمِنونَ تَرْبِطُنا عَلاقاتُ الأخُوَّةِ. وهَذِهِ الأخُوَّةُ أُخُوَّةٌ مَتينَةٌ صَلْدَةٌ مِثْلَ البُنْيانِ المَرْصوصِ. وَالإخْوانُ في هَذِهِ العَلاقَةِ القَوِيَّةِ أَمانَةٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ بَعْضاً. وَهَذِهِ الأخُوَّةُ تَتَطَلَّبُ مِنَّا أَنْ لا نَجْرَحَ إِخْوانَنا وَلَوْ إِيماءً. وَهَذِهِ العِبارَةُ التي قالَها أَحَدُ أَوْلِياءِ القُلوبِ توجِزُ هَذا المَطْلَبَ عَلى أَفْضَلِ وَجْهٍ: "إِيَّاكَ أَنْ تَجْرَحَ نَفْساً، فَتَهْدِمْ عَرْشَ الرَّحْمن".
إِخْوانِيَ الأَعِزّاءُ!
في حَياتِنا اليَوْمِيَّةِ تَتْعَبُ عُقولُنا بِالأخْبارِ المُخْتَلِفَةِ، وَتَسْمَعُ آذانُنا عِباراتٍ كَثيرَةً، نُحَبِّذُها أَوْ لا نُحَبِّذُها. وَيَتِمُّ تَقْديمُ الأقْوالِ القَبيحَةِ مِثْلَ الأكاذِيبِ وَالإفْتِراءاتِ وَالإشاعاتِ، لا سِيَما في وَسائِطِ التَّواصُلِ الاجْتِماعِيِّ، بِشَكْلٍ يُثيرُ الإهْتِمامَ وَالفُضولَ. وَيَتِمُّ أَحْياناً اسْتِهْدافُ كَرامَةِ الإِنْسانِ وَشَرَفِهِ بِواسِطَةِ تَعْليقاتٍ وَأَخْبارٍ كاذِبَةٍ، يَنْشُرونَها بِشَكْلٍ خالٍ مِنَ المُسْؤولِيَّةِ وَالشُّعورِ. بَيْدَ أَنَّ رَسولَ اللهِ (ص) يَقولُ عَنِ المُسْلِمِ: "المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمونَ مِنْ لِسانِهِ وَ يَدِهِ "[3].
إِخْوانيَ الكرام!
نَهانا رَسولُ اللهِ (ص) عَنِ الغيبَةِ وَسوءِ الظَّنِّ واتِّباعِ عَوْراتِ النَّاسِ وَالبَحْثِ عَنِ سَرائِرِهِمْ فَقال:
"لا تغتابُوا المسلمين، ولا تتبِعوا عوراتِهم، فإنَّه من اتَّبعَ عوراتِهم يتَّبعِ اللهُ عورتَهُ، ومن يتَّبعِ اللهُ عورتَهُ يفضَحْهُ فى بيتِه"[4].
وَقالَ رَسولُ اللهِ (ص) في حَديثٍ آخَرَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ"[5]. وَيَقولُ (ص) في حَديثٍ شَريفٍ آخَرَ: "كَفى بِالمَرْءِ كَذِباً أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ ما سَمِعَ"[6].
ولكنْ! تَعالَوْا شاهِدوا اليَوْمَ كَيْفَ يُحَوِّلُ بَعْضُ الأَشْخاصِ الأَكاذيبَ وَالافْتِراءاتِ وَالإشاعاتِ إلى قِطاعٍ لِإدارَةِ عَمَلِيَّةِ صِناعَةِ رَأْيٍ عامٍّ يُزَعْزِعُ سَكينَةَ الفَرْدِ وَالمُجْتَمَعِ عَلى حَدٍّ سَواءٍ.
إِخْوانِيَ الأَعِزَّاءُ!
لِنَجْعَلْ أَلْسِنَتَنا تَنْطِقُ مِنْ أَجْلِ الأمْنِ وَالأمانِ وَالصِّدْقِ وَالإعْتِمادِ، ولا نَجْعَلْها تَنْطِقُ بِالفِتْنَةِ وَالفَسادِ وَالغيبَةِ وَالإشاعاتِ والإفْتِراءاتِ وَالأكاذِيبِ. لِيَكُنْ كَلامُنا وَسيلَةً لِلْمَوَدَّةِ وَالمَحَبَّةِ وَالأخُوَّةِ، وَلَيْسَ وَسيلَةً لِلْحِقْدِ وَالبُغْضِ وَالكَراهِيَةِ وَالعَداوَةِ. تَعالَوْا لا نَنْسى أَنَّ الذي سَيَنْعَمُ بِالجَنَّةِ يَوْمَ القِيامَةِ هُوَ الّذي يَحْفَظُ عَقْلَهُ وَقَلْبَهُ وَلِسانَهُ وَيَدَهُ وَكامِلَ جَسَدِهِ، وَيَنْظُرُ إلى الحَياةِ مُؤْمِنَاً.
أَوَدُّ أَنْ أَخْتِمَ خُطْبَتي بِهَذا الدُّعاءِ الذي تَعَلَّمْناهُ مِنْ حَبيبِنا المُصْطَفى عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ سَمْعِي، وَمِنْ شَرِّ بَصَرِي، وَمِنْ شَرِّ لِسَانِي، وَمِنْ شَرِّ قَلْبِي"[7].
