الجُمُعَةُ خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ



بارَكَ اللهُ لَكُمْ في جُمُعَتِكُمْ إِخْوانِيَ الأَعِزّاءُ الذينَ اجْتَمَعوا في هَذا المَعْبَدِ المُبارَكِ لِأَداءِ صَلاةِ الجُمُعَةِ التي هِيَ شَعِيرَةٌ مِنْ شَعائِرِ الإِسْلامِ!

قَدِمَ رَسولُ اللهِ (ص) مُهاجِراً مِنْ مَكَّةَ حَتّى وَصَلَ إلى المَدينَةِ بَعْدَ رِحْلَةٍ طَويلَةٍ وَشاقَّةٍ، فَأَدْرَكَتْهُ الجُمُعَةُ، فَجَمَعَ القَوْمَ الذينَ جاؤوا لِاسْتِقْبالِهِ، وقامَ يَخْطُبُ فيهِمْ: "أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ فَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ، تَعْلَمُنَّ وَاللَّهِ لَيُصْعَقَنَّ أَحَدُكُمْ، ثُمَّ لَيَدَعَنَّ غَنَمَهُ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ لَهُ رَبُّهُ لَيْسَ لَهُ تَرْجُمَانٌ، وَلا حَاجِبٌ يَحْجُبُهُ دُونَهُ: أَلَمْ يَأْتِكَ رَسُولِي فَبَلَّغَكَ؟ وَآتَيْتُكَ مَالاً، وَأَفْضَلْتُ عَلَيْكَ، فَمَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ، فَلَيَنْظُرَنَّ يَمِيناً وَشِمَالاً، فَلا يَرَى شَيْئًا، ثُمَّ لَيَنْظُرَنَّ قُدَّامَهُ فَلا يَرَى غَيْرَ جَهَنَّمَ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَقِيَ وَجْهَهُ مِنَ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ"[1].

إِخْواني!

اليَوْمُ هُوَ يُوْمُ الجُمُعَةِ، يَوْمُ العيدِ الأُسْبُوعِيِّ. إنَّنا نَعيشَ فَرْحَةً كَبيرَةً في كُلِّ جُمُعَةٍ، وَتَغْمُرُنَا سَعادَةٌ لا يُمْكِنُ وَصْفُها لِأَنَّ يَوْمَ الجُمُعَةِ يَوْمٌ اسْتِثْنائِيٌّ يَمُدُّنا بِالطَّاقَةِ، فَنَتَمَسَّكُ بِالحَياةِ مِنْ جَديدٍ. وَالجُمُعَةُ يَوْمٌ تَنْعَمُ فيها أَرْواحُنا بِالطُّمأْنينَةِ وَالسَّكِينَةِ بَعْدَ أنْ ضاقَتْ ذَرْعاً بِهُمُومِ الدُّنْيا وَأَعْبائِها. وَالجُمُعَةُ وَقْتٌ قَيِّمٌ تَتَطَهَّرُ فيها أَنْفُسُنا التي أَرْهَقَتْها المَصاعِبُ، وَتَعودُ إلى جادَّتِها.

إِخْوَانِيَ الأَفاضِلُ!

يَقولُ اللهُ تَعالى في كِتابِهِ العَظيمِ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ"[2]. فَالجُمُعَةُ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ هُوَ اليَوْمُ الذي نَقِفُ فيهِ بَيْنَ يَدِيِ اللهِ تَعالى بَعيداً عَنْ مَشاغِلِ الحَياةِ اليَوْمِيَّةِ وَهُمومِ الدُّنْيا. وَكَما نُعْلِنُ اسْتِسْلامَنا وَإِخْلاصَنا للهِ تَعالى خَمْسَ مَرّاتٍ بِاليَوْمِ، نُرَسِّخُ عَزيمَتَنا هَذِهِ يَوْمَ الجُمُعَةِ أَيْضاً. وَنُجَدِّدُ عَهْدَنا، عَهْدَ العُبودِيَّةِ للهِ، كُلَّ جُمُعَةٍ. فَالعِباداتُ وَالأَعْمالُ الصَّالِحَةُ التي قُمْنا بِها طيلَةَ الأُسْبوعِ تُعْرَضُ مِنْ جَديدٍ عَلى رَبِّنا في هَذا اللِّقاءِ المُبارَكِ.  

إِخْوانِيَ الأَعِزّاءُ!

الجُمُعَةُ بِالنِّسْبَةِ لَنا يَوْمٌ لِمُحاسَبَةِ أَنْفُسِنا، وَتَطْهيرِها مِنَ الذُّنوبِ التي ارْتَكَبْناها خَطَأً أَوْ عَمْدَاً. في هَذا اليَوْمِ نَتَوَجَّهُ إلى اللهِ وَنَدْعوهُ خَشْيَةً وَتَضَرُّعاً، وَنَرْجُو رَحْمَتَهُ التي وَسِعَتْ كُلَّ شَيءٍ وَنَحْنُ على يَقينٍ أَنَّهُ لَنْ يَرُدَّنا خائِبينَ.

الجُمُعَةُ هُوَ اليَوْمُ الذي نُعْلِنُ فيهِ وَحْدَتَنا وَأُخُوَّتَنا وَمَحَبَّتَنا بِصَوْت عالٍ. فَنَجْتَمِعُ رِجالاً وَنِساءً وَشيباً وَشُبّاناً وَصِغاراً وَكِباراً في جَوامِعِنا وَنَحْنُ نَحْمِلُ في قُلوبِنا العَقيدَةَ ذاتَها وَالنِّيَّةَ ذاتَها وَالمُثُلَ ذاتَها. فَنَسْتَمِعُ إلى الخُطْبَةِ التي تُدَوّي مِنْ هَذا المِنْبَرِ الذي هُوَ مَقامُ النَّبِيِّ (ص). وَنَنْخَرِطُ مِنْ جَديدٍ بِأَحْزانِنا وَأَفْراحِنا، وَنَعيشُ في أَعْماقِنا مُتْعَةَ العُبودِيَّةِ وَالأُخُوَّةِ وَالتَّشارُكِ وَالتَّضامُنِ.

إِخْوانِيَ المُؤْمِنونَ!

يَقولُ رَسولُنا الكَريمُ (ص): "خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ"[3]. فَالجُمْعَةُ رَحْمَةٌ وَبَرَكَةٌ وَطُمَأْنِينَةٌ، وَرَمْزٌ مِنْ رُموزِ دينِنا الحَنيفِ. إِنَّ الوَقْتَ ثَمينٌ جِدَّاً في دينِنا؛ لِأَنَّ اللهَ تَعالى هُوَ خالِقُ الوَقْتِ وَهُوَ الذي أَكْرَمَنا بِهِ وَجَعَلَهُ أَمانَةً في رِقابِنا. وَلَكِنَّ الأَهَمَّ مِنْ مَعْنى الوَقْتِ عِنْدَ اللهِ تَعالى وَكَيْفِيَّةِ تَسْمِيَتِهِ هُوَ مَدَى تَقْييمِنا لَهُ، وَمَدى انْقِضاءِ أَنْفاسِنا بِما يُرْضِي اللهَ تَعالى، وَمَدى تَحْويلِ حَياتِنا الدُّنْيا إلى كَسْبٍ أَبَدِيٍّ لا يَنْضَبُ.

إِخْوانِيَ الأَفاضِلُ!

نَحْنُ المُؤْمِنونَ مُنْزَعِجُونَ مِنْ عِبارَةِ "الجُمُعَةُ السَّوْداءُ" التي نَسْمَعُها مُؤَخَّراً لِأَنَّ الأيَّامَ كُلَّها في دينِنا هِيَ أَيَّامُ اللهِ، وَصَبيحَةُ كُلِّ يَوْمٍ هي بِدايَةٌ لِمُسْتَقْبَلٍ مُشْرِقٍ. في تَقْليدِنا لا مَكانَ لِهَذا النَّوْعِ مِنَ المُقارَباتِ وَالعِباراتِ الدَّنيئَةِ التي تَسْتَهْدِفُ رُموزَ دينِنا، وَتَتَجاهَلُ المُسْلِمينَ. وَاسْتِعْمالُ قُدْسِيَّةِ الدِّينِ أَداةً اسْتِهْلاكِيَّةً دونَ قَيْدٍ أو شَرْطٍ أَمْرٌ مَرْفوضٌ لا يُمْكِنُ قَبولَهُ. 

إِخْواني!

إِنَّ ما يَجِبُ عَلَيْنا فِعْلُهُ أَمامَ هَذِهِ المُحاوَلاتِ الرّامِيَةِ لِتَكْوينِ تَصَوُّراتٍ سَيِّئَةٍ عَنِ الإِسْلامِ في أَذْهانِ النَّاسِ هُوَ أَنْ نَتَمَسَّكَ بِدينِنا وَقِيَمِنا. وَالوَظيفَةُ الكُبْرى التي تَقَعُ عَلى عاتِقِنا تِجاهَ الإِنْسانِيَّةِ أَنْ نُمَثِّلَ دينَنا الحَنيفَ الإسْلامَ، وَكِتابَنا القُرْآنَ الكَريمَ، وَنَبِيَّنا الذي أَرْسَلَهُ اللهُ رَحْمَةً لِلعالمَينَ؛ خَيْرَ تَمْثيلٍ، وَأَنْ نُقَدِّمَهُ لِلآخَرينَ بِشَكْلٍ صَحيحٍ. يَنْبَغي أَنْ لا نَنْسى أَنَّهُ كُلَّما بَذَلْنا جُهوداً في هَذا الطَّريقِ أَعانَنا اللهُ وَلَمْ يَبْخَلْ عَلَيْنا بِنَصْرِهِ وَكَرَمِهِ.



[1] ابن هشام، السيرة، ج3، 30.

[2] الجمعة، 62/ 9.

[3] مسلم، الجمعة، 18.

                        من إعداد المديرية العامة للخدمات الدينية

إرسال تعليق

أحدث أقدم