رَسُولُنَا وَالْأُسْرَةُ


ارَسُولُنَا وَالْأُسْرَةُ

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ الْكِرَام!

إِنَّ أَوَّلَ مَجِيءٍ لِلْوَحْيِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي غَارِ حِرَاءَ، لِيَبْدَأَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ حِينَهَا بِالنُّزُولِ. وَقَدْ عَادَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ تِلْكَ الْحَادِثَةِ إِلَى بَيْتِهِ مُرْتَعِداً فُؤَادُهُ مِنْ ثِقَلِ الْأَمْرِ الْإِلَهِيِّ، وَقَالَ لِرَفِيقَةِ دَرْبِهِ أُمِّنَا خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا "زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي". فَكَانَ بِذَلِكَ قَدْ لَجَأَ إِلَى زَوْجَتِهِ وَأَمِينَةِ سِرِّهِ فَتَلَقَّى مِنْهَا النُّصْرَةَ وَالدَّعْمَ. وَفِي ذَلِكَ الْيَوم تَوَجَّهَتْ أُمُّنَا خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا إِلَى نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَهِيَ عَلَى حَالٍ يَبْعَثُ فِي نَفْسِهِ السَّكِينَةَ وَالْأَمَانَ فَقَالَتْ: "كلَّا! واللهِ مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ"[1]

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْأَعِزَّاء!

إِنَّ الْأُسْرَةَ هِيَ الْأَمَانُ وَهِيَ السَّنَدُ وَالْمَلْجَأُ. وَإِنَّهَا التَّكَافُلُ وَالتَّعَاوُنُ عَلَى الْخَيْرِ بِكُلِّ كَيْنُونَتِهَا، وَهِيَ كَذَلِكَ الْوُقُوفُ فِي وَجْهِ الشَّرِ وَمَنْعِهِ. وَإِنَّ رَسُولُنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي لَمْ يَنْسَى أَبَداً حُبَّ أُمِّنَا خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَدَعْمِهَا وَنُصْرَتِهَا لَهُ، ظَلَّ دَائِماً يَذْكُرُهَا وَيَسْتَذْكِرُهَا بِشَوْقٍ حَتَّى بَعْدَ سَنَوَاتٍ عَدِيدَةٍ مِنْ وَفَاتِهَا. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأُسْرَةَ وَالْعَائِلَةَ هِيَ الْوَفَاءُ وَالْإِخْلَاصُ. وَهِيَ أَيْضاً تِلْكَ الْآصِرَةُ الْأَكْثَرَ قِيمَةً وَالَّتِي تَرْبِطُ الْأَزْوَاجَ بِبَعْضِهِمُ الْبَعْضَ فِي ظِلِّ الْإِخْلَاصِ وَالْأَمَانِ. وَإِنَّ أَفْرَادَ الْأُسْرَةِ الْوَاحِدَةِ هُمْ الَّذِينَ يَكُونُونَ جَنْباً إِلَى جَنْبٍ كَيْ يَتَغَلَّبُوا عَلَى صُعُوبَاتِ الْحَيَاةِ وَكَيْ يَتَقَاسَمُوا وَيَتَشَارَكُوا أَفْرَاحَهَا. وَهُمْ الَّذِينَ يَصُونُونَ عِفَّتَهُمْ وَعِزَّتَهُمْ وَحُرُمَاتِهِمْ وَيُحَافِظُونَ عَلَيْهَا. وَلَا شَكَّ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِخْلَاصِ الْعَائِلِيِّ الْأُسَرِيِّ هُوَ بِمَثَابَةِ شَرَفٍ فِي الدُّنْيَا وَنَجَاةٍ فِي الْأخِرَةِ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ الْأَفَاضِل!

إِنَّ الْمَشْوَرَةَ وَالتَّشَاوُرَ هِيَ الَّتِي كَانَتْ تَسُودُ فِي أُسْرَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَدْ كَانَ رَسُولُنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي قِيمَةً وَأَهَمِّيَّةً لِآرَاءِ أَفْرَادِ أُسْرَتِهِ كَمَا وَكَانَ يَعْمَلُ عَلَى حَلِّ الْمَشَاكِلِ الَّتِي تَحْدُثُ دَاخِلَ أُسْرَتِهِ بِالصَّبْرِ وَالْفَرَاسَةِ وَالْفِطْنَةِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّشَاوُرَ وَالْمَشْوَرَةَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَضْمَنَ تَخَطِّي الْأَزَمَاتِ بِالاِمْتِثَالِ لِلْعَقْلِ السَّلِيمِ وَدُونَ الذَّهَابِ لِلشِّدَّةِ وَالْعُنْفِ. وَلَا شَكَّ أَنَّهَا بِفَضْلِ الْآرَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ لِلْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلَادِ تَمْنَعُ وَتَحُدُّ مِنْ اِرْتِكَابِ الْأَخْطَاءِ وَالْوُقُوعِ فِيهَا. وَهِيَ كَذَلِكَ تَضْمَنُ تَوْزِيعَ الْحُقُوقَ وَالْمَسْؤُولِيَّاتِ الْأُسَرِيَّةِ عَلَى نَحْوٍ مُتَوَازِنٍ. وَذَلِكَ لِإَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أَوْصَى الرِّجَالَ بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ فِي أُسَرِهِمْ قَدْ قَالَ، "أَلَا إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا ، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا"[2]

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْأَعِزَّاء!

إِنَّ وُجُودَ الشَّفَقَةِ وَالْمَرْحَمَةِ فِي نِطَاقِ الْأُسْرَةِ هُوَ تَجَلٍّ لِاسْمِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ "الرَّحْمَنُ". وَإِنَّ الْمَرْحَمَةَ لَا تَكُونُ بِالْإِحْسَاسِ بِالشَّفَقَةِ فَقَطْ بَلْ إِنَّهَا تَتَمَثَّلُ فِي الْاِجْتِهَادِ مِنْ أَجْلِ فَهْمِ الشَّخْصِ الَّذِي نُخَاطِبُهُ مِنْ خِلَال إِعْطَائِهِ الْقَدْرَ وَالْقِيمَةَ الْمَطْلُوبَةَ. وَالْمَرْحَمَةُ كَذَلِكَ هِيَ التَّعَامُلُ مَعَ أَفْرَادِ الْأُسْرَةِ بِالْإِحْسَانِ وَالْإِنْصَافِ وَالطِّيبِ وَحُسْنِ التَّصَرُّفِ وَالشَّفَقَةِ.

وَإِنَّ مِنْ الْقِيَمِ الْأَسَاسِيَّةِ الَّتِي هِيَ ضِمْنُ النِّطَاقِ الْأُسَرِيِّ  فِي أُسْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ الشَّفَقَةُ. فَقَدْ كَانَ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَامَلُ بِأَسْمَى دَرَجَاتِ الشَّفَقَةِ مَعَ عَائِلَتِهِ وَأُسْرَتِهِ. فَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَكْسِرُ قَلْبَ أَحَدٍ مِنْ أَفْرَادِ أُسْرَتِهِ، وَلَا يَتَفَوَّهُ بِالْقَوْلِ الْجَارِحِ وَالْحَدِيثِ الفَظِّ، وَلَا يَصْرُخُ وَيُعْلِي صَوْتَهُ، وَلَا يَتَلَفَّظُ بِسُوءِ الْقَوْلِ. كَمَا وَكَانَ لَا يَسْتَخْدِمُ يَدَيْهِ مِنْ أَجْلِ الْعُنْفِ وَالْقَسْوَةِ، وَكَانَ لَا يَسْمَحُ أَبَداً أَنْ يَنَالَ الْعُنْفُ وَالشِّدَّةُ مِنْ النِّسَاءِ وَالْأَوْلَادِ. فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي"[3]

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ الْأَعِزَّاء!

إِنَّ أُسْرَةَ النَّبِيِّ الْأَكْرَمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ مَلِيئَةً بِالْحُبِّ وَالْمَحَبَّةِ. وَكَانَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ هَذِهِ الْعَائِلَةِ النَّبَوِيَّةِ السَّعِيدَةِ يَحْمِلُ فِي قَلْبِهِ مَحَبَّةً وَأُلْفَةً عَظِيمَةً وَعَمِيقَةً. وَكَانَ رَسُولُنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَرَدَّدُ فِي إِظْهَارِ حُبِّهِ لِأَزْوَاجِهِ وَأَبْنَائِهِ وَأَحْفَادِهِ. فَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَدِّرُهُمْ، فَعَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ عِنْدَمَا كَانَتْ تَأْتِي اِبْنَتَهُ فَاطِمَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا كَانَ يَقِفُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَدَمَيْهِ وَيُعْطِيهَا مَكَانَهُ الَّذِي يَجْلِسُ فِيهِ. وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ يَجْمَعُ أَفْرَادَ أُسْرَتِهِ كُلَّ مَسَاءٍ وَيَتَسَامَرُ مَعَهُمْ.

لَا شَكَّ أَنَّ الْأَشْخَاصَ الْأَكْثَرَ قُرْباً مِنَّا وَالَّذِينَ يَحْمِلُونَ مَعَنَا أَثْقَالَ الْحَيَاةِ وَأَحْمَالَهَا هُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ اِسْتِحْقَاقَاً لِحُبِّنَا وَمَحَبَّتِنَا. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ بِبْتِسَامَاتِنَا، وَمِنْ خِلَالِ كَلِمَاتِنَا الَّتِي تُسْعِدُ الْقُلُوبَ وَتُرْضِيهَا، يَنْمُو الْحُبُّ وَيَتَعَاظَمُ فِي الْأُسْرَةِ. وَلِذَا فَقَدْ قَالَ رَسُولُنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا"[4]

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْكِرَام!

إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ قَالَ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ مُخَاطِباً رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :"قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ"[5] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَعْنَى وَرَاءَ حُبِّ الْمُؤْمِنِ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَثَّلُ فِي اِتِّبَاعِهِ لِطَرِيقِهِ وَسُنَّتِهِ وَذَلِكَ يَعْنِي تَبَنِّيهِ لِأُسْلُوبِ حَيَاتِهِ. كَمَا أَنَّنَا الْيَوْمَ بِحَاجَةٍ مَاسَّةٍ أَكْثَرَ مِنْ أَيِّ وَقْتٍ مَضَى لِلتَّأَسِّي بِهِ وَاتِّبَاعِهِ وَكَذَلِكَ لِلْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الَّتِي أَحْيَاهَا وَأَنْشَأَهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

لَا رَيْبَ أَنَّهُ وِفْقاً لِمَا تَعَلَّمْنَاهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الْأُسْرَةَ يَتِمُّ إِنْشَاؤُهَا وَتَأْسِيسُهَا مِنْ خِلَالِ الْحُبِّ وَالْمَحَبَّةِ وَالْأَمَانِ، كَمَا وَيَتِمُّ حِمَايَتُهَا وَحِفْظُهَا مِنْ خِلَالِ الْعَدَالَةِ وَالْمَرْحَمَةِ. وَإِنَّ دُعَاءَنَا الْيَوْمَ كَمُؤْمِنِينَ يَطْلُبُونَ وَيَنْشُدُونَ الطُّمَأْنِينَةَ فِي أُسَرِهِمْ وَعَوَائِلِهِمْ هُوَ مَاثِلٌ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا"[6]



[1] صَحِيحُ الْبُخَارِيُّ، كِتَابُ بَدْءِ الْوَحْي، 3؛ صَحِيحُ مُسْلِمْ، كِتَابُ الإِيمَانْ، 252.

[2] سُنَنُ التِّرْمِذِيُّ، كِتَابُ الرَّضَاع، 11.

[3] سُنَنُ التِّرْمِذِيُّ، كِتَابُ المَنَاقِب، 63.

[4] سُنَنُ التِّرْمِذِيُّ، كِتَابُ البِرّ، 15.

[5] سُورَةُ آلِ عِمْرَان، الآيَةُ: 31.

[6] سُورَةُ الفُرْقَان، الآيَةُ: 74.

المُدِيرِيَّةُ العَامَّةُ لِلْخَدَمَاتِ الدِّينِيَّة

إرسال تعليق

أحدث أقدم