أَخْلاقُ التِّجارَةِ في الإِسْلامِ
بارَكَ اللهُ لَكُمْ في جُمُعَتِكُمْ إخْوانِيَ الأعِزّاءُ!
جاءَ في الحَديثِ أنَّ النَّبِيَّ (ص) مَرَّ على صُبْرَةِ طَعامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهاَ فَنالَتْ أصابِعُهُ بَلَلاً. فَقالَ: مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟ مَنْ غَشَّناَ فَلَيْسَ مِنَّا"[1].
أيُّها المُؤْمِنونَ الأعِزّاءُ!
وَمِنَ الْمَبْدَأِ الْأَساَسِيِّ في دِينِناَ الحَنِيفِ أنْ يُعِيلَ الإنْسانُ نَفْسَهُ وَأَفْرادَ أُسْرَتِهِ دونَ حاجَةٍ لِأَحَدٍ. وَالكَسْبُ الحَلالُ والمَشْروعُ، وَالعَمَلُ بِالتِّجارَةِ، أَمْرٌ يَسْتَحِقُّ المَدْحَ وَالثَّناءَ. لَكِنَّ دِينَناَ يُحَرِّمُ كُلَّ عَمَلٍ تِجارِيٍّ لا يُراعِي فيهِ التّاجِرُ رِضا اللهِ تَعالى وَحَقَّ العِبادِ وَالحَلالَ وَالحَرامَ. وَيَتَوَعَّدُ اللهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَيَقولُ في كِتابِهِ العَظيمِ: "وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ"[2].
إخواني!
رَسَمَ الإِسْلامُ لِحَياةِ الإنْسانِ خارِطَةَ طَريقٍ تَتَّسِمُ بِالاتِّزانِ وَالحَقَّانِيَّةِ وَالسَّكِينَةِ، وَوَضَعَ مَجْموعَةً من المَبادِئِ لِأَخْلاقِ التِّجارَةِ، وَمِنْ بَيْنِ أَهَمِّ هَذِهِ المَبادِئِ الكَسْبُ الحَلالُ. فَالمُسْلِمُ يُعيرُ أَهَمِّيَّةً لِلاسْتِثْمارِ مِنْ أَجْلِ الآخِرَةِ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعِيرَ أهَمِّيَّةً لِلْكَسْبِ الدُّنْيَوِيِّ، وَيَحْرِصُ على أَنْ لا يَتَلَوَّثَ كَسْبُهُ بِالمالِ الحَرامِ. فَلا يُتاجِرُ بِالأشْياءِ التي حَرَّمَها اللهُ تَعالى، وَلا يَجْمَعُ ثَرْوَتَهُ بِطُرُقٍ غَيْرِ مَشْروعَةٍ، وَلا يَمُدُّ يَدَهُ على أَمْوالِ الدَّوْلَةِ، وَلا يَتَهَرَّبُ مِنْ دَفْعِ الضَّرائِبِ. وَلا يَقْبَلُ أبَداً الفَهْمَ الاحِتِكارِيَّ الانْتِهازِيَّ الذي يَقْضي على مُنافِسِهِ بُغْيَةَ الوُصولِ إلى هَدَفِهِ، وَيَتَّخِذُ الإيثارَ لِنَفْسِهِ شِعاراً، لا الأَنانِيَّةَ، وَيَتَحَرَّكُ وَهُوَ يَتَبَنّى فِكْرَةَ أَنْ يَكْسِبَ أَخوهُ أيْضاً.
أيُّها المُسْلِمونَ الأفاضِلُ!
وَالمَبْدَأُ الآخَرُ لِأَخْلاقِ التِّجارَةِ هُوَ الصِّدْقُ والأمانَةُ والإخْلاصُ. فَالصَّراحَةُ والشَّفافِيَّةُ في التِّجارَةِ تَعْني اجْتِنابَ الكَذِبِ والحِيلَةِ والخِداعِ. وَرَسولُ الله (ص) يُبَشِّرُ التّاجِرَ الصَّادِقَ فَيَقولُ: "التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ"[3].
المُؤْمِنُ يا إخْواني مُكَلَّفٌ بِأَنْ يَكونَ أَميناً وَصادِقاً في أَقْوالِهِ، وَعِنْدَما يَعْمَلُ مِنْ أَجْلِ الكَسْبِ الحَلالِ، يُدْرِكُ أنَّ عَمَلَهُ هذا عِبادَةٌ. وأَجْدادُنا الذين تَحَرَّكوا بِهَذا الوَعْيِ أَسَّسُوا تَقْليدَ "الآخِيَّةِ" [التَّعْليمُ عنْ طَريقِ عَلاقَةِ الأُسْطَةِ وَالصَّانِعِ]. فَكانوا يَتَعامَلونَ مَعَ النَّاسِ في الأسْواقِ بِناءً على مَبْدَأ رِعايَةِ الحُقوقِ وَمُراعاةِ الأخْلاقِ. فَكانَ مِنْهُمْ تُجَّارٌ وَحِرَفِيّونَ وَمُعَلِّمونَ يَتَحَلَّوْنَ بِالمَعْنَويّاتِ العالِيَةِ وَالأخْلاقِ الفَضِيلَةِ إلى جانِبِ مَهارَتِهِمْ في العَمَلِ. وَهُناكَ أَقْوامٌ كَثيرَةٌ دَخَلَتِ الإسْلامَ تَأَثُّراً بِالأخْلاقِ التِّجارِيَّةِ التي كانَ يَتَحَلّى بها تُجَّارُ المُسْلِمينَ.
إخوانيَ الأفاَضِلُ!
يَقولُ رَسولُ اللهِ (ص): " لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ باَعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعاً فِيهِ عَيْبٌ إِلاَّ بَيَّنَهُ لَهُ "[4]. فَإخْفاءُ عُيوبِ السِّلْعَةِ يُذْهِبُ الثِّقَةَ بَيْنَ النَّاسِ وَالبَرَكَةَ في البَيْعِ والشِّراءِ. وَتَكونُ عاقِبَةُ البائِعِ الذي يَكْتِمُ عُيوبَ سِلْعَتِهِ هُوَ الخُسْرانُ في واقِعِ الأمْرِ وَإِنْ بَدا كَأَنَّهُ الرّابِحُ على المَدى القَصيرِ. وَالمُؤْمِنُ الذي يَعي هَذا الأمْرَ لا يَرى كُلَّ الوَسائِلِ مُباحَةً مِنْ أَجْلِ الكَسْبِ، وَلا يَسْتَبْدِلُ سَعادَةَ الآخِرَةِ بِمالِ الدُّنْيا الفانِيَةِ، وَلا يُحاوِلُ إلي نَيْلِ الكَسْبِ والْمَناَفِعِ على سَبِيلِ خَساَرَةِ الآخَرينَ، ولا يَتَوَسَّلُ إلى الإعْلاناتِ الخادِعَةِ، ولا يُفْسِدُ السُّوقَ بِمُنافَساتٍ ظالِمَةٍ.
إخواني!
ثَمَّةَ أَمْرٌ آخَرُ يَجِبُ الانْتِباهُ إلَيْهِ في حَياتِنا التِّجارِيَّةِ، أَلا وَهُوَ أَلّا تُلْهِيَنا التِّجارَةُ وَالبَيْعُ عَنْ أَداءِ العِباداتِ عَمَلاً بِقَوْلِهِ تَعالى: "رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ"[5].
واَأَسَفاَهُ أنْ نَرَى في يَوْمِنا اضْمِحْلالَ القَناعَةِ وَالتَّواضُعِ وَالصِّدْقِ وَالإنْصافِ وَالحَساسِيِّةِ تِجاهَ الكَسْبِ الحَلالِ، وَتَزايُدَ الطَّمَعِ وَالجَشَعِ وَحُبَّ المالِ وَالإسْرافِ وَالتَّبْذِيرِ.
فَتَعالَوْا نُراجِعْ حَياتَنا لِوَضْعِ حَدٍّ لِهَذِهِ السّيْرُورَةِ، وَنَكْسِبِ المالَ بِصِدْقٍ وَأمانَةٍ، وَلْنَسْتَثْمِرْ فِيماَ هُوَ طَيِّبٌ وَحَلالٌ. تَعالَوْا نَسُدَّ الطُّرَقَ المُؤَدِّيَةَ إلى الزَّيْفِ وَالحَرامِ، وَلْنَكُنْ مُؤمِنينَ يَكْسِبونَ المالَ إرْضاءً للهِ تَعالى وَيُنْفِقُونَهُ في سُبُلِ الخَيْرِ.
