التّوَكُّلُ: وِقْفَةُ المُؤْمِنِ



بارَكَ اللهُ لَكُمْ في جُمُعَتِكُمْ إخْوانِيَ الأعِزّاءُ!

خَرَجَ سَيِّدُنا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم معَ أَبي بَكْرٍ رضي الله عنه مُهاجِراً إلى المَدينَةِ. وعِنْدَما عَلِمَ المُشْرِكونَ بِهَذا الخَبَرِ بَدَؤوا يَبْحَثونَ عَنْهُما في كُلِّ مَكانٍ. فَالْتَجَأَ رَسولُ اللهِ (ص) مع سَيِّدِنا أبي بَكْرٍ (رض) إلى غارِ ثَوْرٍ لِلْبُعْدِ عَنْ أَعْيُنِ المُشْرِكينَ. وَوَصَلَ المُشْرِكونَ إلى مَكانِ الغارِ فَفَزِعَ أَبو بَكْرٍ (رض) وَخافَ عَلى رَسولِ اللهِ (ص) وَقالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ، نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ، أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ". فَكانَ رَسولُ اللهِ (ص) خاضِعاً مُسْتَسْلِماً للهِ تَعالى، وواثِقاً بِنَصْرِهِ سُبْحانَهُ، وأَخَذَ يُهَدِّئُ رَوْعَ صاحِبِهِ أبي بَكْرٍ (رض) وَهُوَ يَقولُ كَما وَرَدَ في القرآنِ الكريم[1]: "لا تَحْزَنْ إنَّ اللهَ مَعَنا". ويقولُ: "يا أبا بَكْرٍ ما ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثالِثُهُما"[2].

إخْوَاني!

إنَّ التّوَكُّلَ هُوَ واحِدٌ مِنَ الخِصالِ الهامَّةِ التي يَجِبُ أنْ يَتَحَلّى بِها المُؤْمِنُ. والتّوَكُّلُ يَعْني أَنْ نَأْخُذَ بِكُلِّ الأسْبابِ، ونَعْمَلَ ما بِوُسْعِنا ثُمَّ نَتَوَكَّلَ على رَبِّ الأرْبابِ. والتّوَكُّلُ هُوَ الاسْتِسْلامُ للهِ تَعالى دونَ قَيْدٍ أو شَرْطٍ مُعْتَرِفينَ بِالعِجْزِ والمَهانَةِ، واللّجوءُ إلى اللهِ تَعالى في السَّرّاءِ والضَّراءِ والضَّيقِ والفَرَجِ وَفي كُلِّ زَمانٍ ومَكانٍ. وَالتَّوَكُّلُ يَعْني أَنْ نَفْتَحَ أَيْدِيَنا للهِ وَنَرْجُوَ مِنْهُ العَوْنَ والنَّصْرَ في عُسْرِنا وَيُسْرِنا، وفي وَقْتٍ لا نَجِدُ فيهِ أَعْواناً في أَوْقاتِنا الصَّعْبَةِ.  

إخْوانِيَ الأعِزّاءُ!

إنْ كُنَّا نُريدُ أَنْ نَعْرِفَ مَعْنى التَّوَكُّلُ الحَقيقِيُّ فَعَلَيْنا أَنْ نُلْقي نَظَرَةً إلى حَياةِ الأنْبِياءِ، فَكُلُّ نَبِيٍّ يُمَثِّلُ قُدْوَتَنا المُثْلى في التَّوَكُّلِ. فآدمُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَ أَوَّلَ قُدْوَةٍ يُعَلِّمُ النَّاسَ التَّوَكُّلَ. وَالتَّوَكُّلُ في حالَةِ آدَمٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ تَجَلّى في النَّدَمِ على الخَطايا والمَعاصي وَعَدَمُ اليَأْسِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعالى. فَعِنْدَما أَدْرَكَ سَيِّدُنا آدَمُ وَأُمُّنا حَوّاءَ أَنَّهُما ارْتَكَبا خَطيئَةً دَعَوَا اللهَ تَعالى تائِبينَ: "رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ"[3].

 

 

إخْوانِيَ الأعِزّاءُ!

والتَّوَكُّلُ هو أنْ نَتَحَلّى بِالعَزيمَةِ والثّباتِ على الحَقِّ مِثْلَ سَيِّدِنا إبْراهيمَ الذي لَمْ يَصُدَّهُ الإلقاءِ في النّارِ عَنْ سَبيلِ التَّوْحيدِ. والتَّوَكُّلُ يَعْني أنْ نَضَحّي بِكُلِّ ما نَمْلِكُ في سَبيلِ اللهِ إذا دَعَتِ الضّرورَةُ كَما فَعَلَ سَيِّدُنا إسْماعيلُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. والتَّوَكُّلُ يَعْني أَنْ نَتَسَلَّحَ بِالصَّبْرِ كَما صَبَرَ سَيِّدُنا أيوبُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ على آلامِهِ وفُقْدانِ أَهْلِهِ وشِدَّةِ مَرَضِهِ. وَأنْ نَتَحَلّى بِالتَّضْحِيَةِ مِثْلَ يَعْقوبَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسّلامُ الذي فَقَدَ بَصَرَهُ حُزْناً على غِيابِ ابْنِهِ يُوسُفَ. والتَّوَكُّلُ يَأْتي بِمَعْنى الالْتِجاءِ إلى اللهِ تَعالى أَمامَ كُلِّ مِحْنَةٍ تَماماً مِثْلَ يوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ الذي يُمَثِّلُ العِفَّةَ والحَياءَ. والتَّوَكُّلُ أَخيراً أنْ نَكونَ مُتَفائلينَ رَغْمَ كُلِّ المَصاعِبِ كَحالِ رَسولُنا الكَريمُ (ص)، ونَكونَ مِثْلَهُ على إيمانٍ ثابِتٍ لا يَتَزَعْزَعُ ومَبادِئَ عُلْيا وَهِمَّةٍ عالِيَةٍ، وَنَقْتَديَ بِهِ في الثَّباتِ على طَريقِ الرَّحْمَةِ والرّأْفَةِ والحَقِّ والأخْلاقِ والفَضيلَةِ.

إِخْوانِيَ الأعِزّاءُ!

التَّوَكُّلُ لا يُمْكِنُ أنْ يَكونَ وِسيلَةً لِلْكَسْلِ والخُمولِ، بَلْ عُنْصُراً يَبْعَثُ الاجْتِهادَ والإنْتاجَ. والتَّوَكُّلُ دونَ الأخْذِ بِالأسْبابِ وَأداءِ المَسْؤُولِيّاتِ لا يَتَماشى مَعَ روحِ الإسْلامِ. فَالقُعودُ عن الأَخْذِ بالأَسْبابِ تَحْتَ مَزاعِمِ التَّوَكُّلِ؛ تَواكُلٌ وَكَسَلٌ. ونِهايَةُ التَّواكُلِ خِذْلانٌ وخُسْرانٌ مُبينٌ.

إِخْوَانِيَ الأفاضِلُ!

إنْ كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَتَعَالَوْا نَجْتَهِدْ في وَظائِفِنا، وَلْنُؤَدِّ ما عَلَيْنا مِنْ مَسْؤولِيَّاتٍ، وَلْنَتَعَلَّمْ طَلَبَ النُّصْرَةِ مِنَ اللهِ تَعالى. تَعالَوْا لا نَتَوَكَّلْ إلا على اللهِ الباقي والقادِرِ عَلى كُلِّ شَيءٍ، ولا نَتَوَكَّلْ على الدُّنْيا الفانِيَةِ والأمورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، ولِنَعْمَلْ على التَّحَلّي بِصِفاتِ المُؤْمِنينَ الحَقيقيّينَ التي ذَكَرَها اللهُ تَعالى في قَوْلِهِ سُبْحانَه: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"[4].

أَيُّها المُؤْمِنونَ الأعِزّاءُ!

أَخْتِمُ خُطْبَتَنا بِهَذا الدُّعاءِ الذي عَلَّمَنا إيّاهُ حَبيبُنا المُصْطَفى عَلَيْهِ أفْضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ: "بِسْمِ اللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنِّا نَعوذُ بِكَ أنْ نَزِلَّ أو نُضَلَّ، أوْ نَظلِمَ أوْ نُظلَم، أوْ نَجْهَلَ أو يُجهَلَ عَلَينا"[5].


________________________________

[1] التوبة، 9/ 40.

[2] البخاري، فضائل الأصحاب، 2.

[3] الأعراف، 7/ 23.

[4] الأنفال، 8/ 2.

[5] الترمذي، الدعوات، 35

 

 

 

من إعداد المديرية العامة للخدمات الدينية

إرسال تعليق

أحدث أقدم