اِسْتِشْعَارُ الْمُرَاقَبَةِ وَالْمُحَاسَبَةِ



اِسْتِشْعَارُ الْمُرَاقَبَةِ وَالْمُحَاسَبَةِ

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ الْكِرَامُ!

إِنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي قُمْتُ بِتِلَاوَتِهَا: "وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ"[1]

أَمَّا فِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الإحْسَانُ أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ"[2]

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْأَعِزَّاءُ!

إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ بِصِفَتِهِ قُرَّةُ عَيْنِ الْكَائِنَاتِ، لَمْ يَتْرُكْهُ فَارِغَ الْمَضْمُونِ وَلَمْ يَدَعْهُ لِنَفْسِهِ وَلِوَحْدِهِ. فَالْإِنْسَانُ تَحْتَ الْمُتَابَعَةِ وَالْمُرَاقَبَةِ الْاِلَهِيَّةِ عَلَى الدَّوَامِ. وَإِنَّ جَمِيعَ مَا نَقُومُ بِهِ مُسَجَّلٌ كَيْ تَتِمَّ الْمُحَاسَبَةُ عِنْدَ مَجِيءِ وَقْتِهَا. وَإِنَّ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ يَعْرِضُهَا الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ"[3]

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ الْأَفَاضِلُ!

إِنَّ الدُّنْيَا هِيَ مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ. وَإِنَّ كُلَّ مَنْ يَأْتِي يَذْهَبُ مُهَاجِراً وَكُلَّ عَبْدٍ يَحْصُدُ مَا زَرَعَ. فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.[4]  وَإِنَّ رَبَّنَا عَزَّ وَجَلَّ يَأْمُرُنَا بِالْاِسْتِعْدَادِ لِلْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ"[5] وَإِنَّهُ بِذَلِكَ يَدْعُونَا إِلَى الْمُرَاقَبَةِ أَيْ الرُّجُوعِ إِلَى عَالَمِنَا الدَّاخِلِيِّ وَالْقِيَامِ بِمُحَاسَبَةٍ لِأَنْفُسِنَا.

إِنَّ الْمُرَاقَبَةَ، هِيَ أَنْ نَسْأَلَ أَنْفُسَنَا لِأَيِّ غَايَةٍ خُلِقْنَا وَمِنْ أَيْنَ أَتَيْنَا وَإِلَى أَيْنَ نَحْنُ نَسْعَى. وَهِيَ أَنْ نَسْعَى لِلتَّكْفِيرِ وَالتَّلاَفِي عَنْ أَخْطَائِنَا وَذُنُوبِنَا بَعْدَ أَنْ نُحَاسِبَ أَنْفُسَنَا عَلَيْهَا. وَهِيَ أَنْ نَحْيَا وَنَحْنُ نَسْتَشْعِرُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَعَنَا فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَآنٍ. كَمَا أَنَّهَا تَتَمَثَّلُ فِي أَنْ نُسَيْطِرَ عَلَى أَنْفُسِنَا وَنَحْكُمَهَا بِأَنْ نَسْتَمِدَّ قُوَّتَنَا مِنْ إِيمَانِنَا وَنُعْمِلَ عُقُولَنَا. وَهِيَ كَذَلِكَ أَنْ لَا نَرْكَنَ إِلَى شَرَكِ الشَّيْطَانِ وَرَغَبَاتِ الدُّنْيَا الَّتِي لَا تَنْتَهِي وَأَنْ نَكُونَ عَلَى يَقَظَةٍ دَائِمَةٍ. وَإِنَّ الْمُرَاقَبَةَ، هِيَ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ بِإِخْلَاصٍ مِنْ خِلَالِ رَبْطِ الْقَلْبِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالتَّسَابُقُ فِي الْخَيْرِ وَالتَّقْوَى.

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْأَفَاضِلُ!

إِنَّ الْعَيْشَ مَعَ الْعِلْمِ بِالذَّاتِ وَالثِّقَةِ بِالرَّبِ عَزَّ وَجَلَّ، هُوَ رَأْسُ مَالِ الْمُسْلِمِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَرْءَ الَّذِي يَعْرِفُ قِيمَةَ حَاضِرِهِ مِنْ خِلَالِ اِسْتِخْلَاصِ الدُّرُوسِ مِنْ مَاضِيهِ وَالَّذِي يُخَطِّطُ لِمُسْتَقْبَلِهِ اِعْتِمَاداً عَلَى الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ، يَبْلُغُ الْكَمَالَ. وَقَدْ حَثَّنَا رَسُولُنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُحَاسَبَةٍ دَاخِلِيَّةٍ كَهَذِهِ بِقَوْلِهِ: " لاَ تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ ."[6]

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ الْأَعِزَّاءُ!

إِنَّنِي فِي نِهَايَةِ خُطْبَتِي هَذِهِ أُرِيدُ أَنْ أُذَكِّرَ بِأَنَّهُ مِنْ الضَّرُورَةِ بِمَكَانٍ أَنْ نَقُومَ بِمُحَاسَبَةٍ لِأَنْفُسِنَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمُكَافَحَتِنَا لِهَذَا الْوَبَاءِ الْمُعْدِي. فَإِنَّ مَا يَقَعُ عَلَى عَاتِقِنَا فِي خِضَمِّ هَذِهِ الْمُكَافَحَةِ هُوَ أَنْ نَتَصَرَّفَ بِوَعْيٍ. وَذَلِكَ لِأَنَّ حَسَاسِيَّتَنَا الْمُتَعَلِّقَةَ بِمَوْضُوعِ الْاِمْتِثَالِ لِلتَّدَابِيرِ مُهِمَّةٌ لِلْغَايَةِ بِقَدْرِ أَهَمِّيَّةِ التَّدَابِيرِ الْمُتَّخَذَةِ. فَلَا يَجِبُ أَنْ نَتَرَاخَى وَأَنْ نُهْمِلَ الْأَمْرَ. وَلْنُصْغِي لِلتَّحْذِيرَاتِ كَيْ لَا نَنْتَهِكَ حُقُوقَ الْعِبَادِ. وَلَا يَجِبُ أَنْ نَدَعَ الْجُهُودَ الَّتِي تَمَّ بَذْلُهَا مُنْذُ بِدَايَةِ الْوَبَاءِ إِلَى الْيَوْمِ، تَذْهَبُ سُدًى. وَإِنَّنِي بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ أَسْأَلُ رَبَّنَا عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ وَافَتْهُمْ الْمَنِيَّةُ مِنْ إِخْوَانِنَا خِلَالَ مَرْحَلَةِ مُكَافَحَةِ الْوَبَاءِ هَذِهِ وَفِي مُقَدِّمَتِهِمْ أَبْنَاءُ طَوَاقِمِنَا الطِّبِّيَّةِ، مَرَاتِبَ الشُّهَدَاءِ وَأَنْ يُنْعِمَ بِالشِّفَاءِ الْعَاجِلِ عَلَى مَرْضَانَا.



[1] سُورَةُ الْحَدِيدِ، الْآيَةُ 4.

[2] صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ، كِتَابُ التَّفْسِيرِ، سُورَةُ لُقْمَانَ، الْآيَةُ 2.

[3] سُورَةُ ق، الْآيَةُ 18.

[4] سُورَةُ الزَّلْزَلَة، الْآيَاتُ: 7،8.

[5] سُورَةُ الْحَشْرِ، الْآيَةُ، 18.

[6] سُنَنُ التِّرْمِذِيّ، كِتَابُ صِفَةُ الْقِيَامَةِ، 1.

الْمُدِيرِيَّةُ الْعَامَّةُ لِلْخَدَمَاتِ الدِّينِيَّةِ

إرسال تعليق

أحدث أقدم