عَظَمَةُ الْإِنْسَانِ فِي تَوَاضُعِهِ


"عَظَمَةُ الْإِنْسَانِ فِي تَوَاضُعِهِ "

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ الْكِرَام!

إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي قُمْتُ بِقِرَاءَتِهَا: " وَعِبَادُ الرَّحْمٰنِ الَّذ۪ينَ يَمْشُونَ عَلَى الْاَرْضِ هَوْناً..."[1]

وَيَقُولُ رَسُولُنَا الْحَبِيبُ صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ: "مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ تَخَشُّعًا رَفَعَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ تَطَاوَلَ تَعَظُّمًا وَضَعَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ."[2]

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْأَعِزَّاء!

لَا شَكَّ أَنَّ أَعْظَمَ دَلِيلٍ عَلَى كَمَالِ الْإِيمَانِ فِي حَيَاتِنَا هُوَ الْأَخْلَاقُ الْفَاضِلَةُ الْحَمِيدَةُ جَنْباً إِلَى جَنْبٍ مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَخْلَاقَ الْفَاضِلَةَ هِيَ الْأَسَاسُ الْقَيِّمُ الَّذِي يُنِيرُ دُنْيَانَا وَيَجْعَلُ مِنْ آخِرَتِنَا جَنَّةً رَغِيدَةً. وَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِلَا رَيْبٍ أَنَّ الْحَيَاةَ الَّتِي تَنْتَهِي بِنَا إِلَى الْجَنَّةِ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ وَالْحَمِيدَةِ. وَإِنَّ التَّوَاضُعَ هُوَ فِي مُقَدِّمَةِ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُجِلَّنَا وَتُعْظِمَ قَدْرَنَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

إِنَّ التَّوَاضُعَ هُوَ عَدَمُ الْكِبْرِ وَالاسْتِعْلَاءِ. وَهُوَ الاِبْتِعَادُ عَنْ التَّبَاهِي وَالْعُجْبِ وَالْخُيَلَاءِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّوَاضُعَ هُوَ تَبَنٍّ لِحَيَاةٍ طَاهِرَةٍ نَقِيَّةٍ مِنْ الْغُرُورِ وَالْكِبْرِيَاءِ. وَهُوَ أَيْضاً إِظْهَارُ الاِحْتِرَامِ وَالشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ حَيٍّ وَمُعَامَلَتِهِ بِأَدَبٍ وَلَطَافَةٍ  وَرِفْقٍ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ الْكِرَام!

إِنَّنَا نَحْنُ الْمُؤْمِنُونَ قَدْ تَعَلَّمْنَا التَّوَاضُعَ مِنْ رَسُولِنَا الْأَكْرَمِ صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَدْ عَاشَ صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيَاةً تَتَّسِمُ بِالْبَسَاطَةِ.[3] وَكَانَ يُجِلُّ وَيُقَدِّرُ الإِنْسَانَ لِأَنَّهُ إِنْسَانٌ. كَمَا وَأَخْبَرَ صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ التَّوَاضُعَ هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ.[4] وَقَدْ ذَكَّرَنَا كَذَلِكَ بِأَنَّ احْتِقَارَ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ هُوَ إِثْمٌ كَافٍ بِذَاتِهِ.[5] كَمَا أَنَّ رَسُولَنَا الْأَكْرَمَ صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَنَا بِأَنَّ التَّوَاضُعَ هُوَ صِفَةٌ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُجِلَّ وَتُعْظِمَ قَدْرَ صَاحِبِهَا عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِذْ يَقُولُ فِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: "... وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ."[6]

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْكِرَام!

إِنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي يَتَّسِمُ بِالتَّوَاضُعِ وَيَتَّخِذُ رَسُولَنَا الْحَبِيبَ صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُدْوَةً لَهُ يُدْرِكُ أَنَّ جَمِيعَ الْآلاَءِ وَالنِّعَمِ هِيَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَأَنَّهَا مِلْكُهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَيُدْرِكُ كَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ النِّعَمَ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ بِهَا عَلَيْهِ هِيَ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ اِمْتِحَانٌ لِذَاتِهِ وَنَفْسِهِ. وَالْمُؤْمِنُ هُوَ الَّذِي يُسَخِّرُ جَمِيعَ الاِمْكَانَاتِ الَّتِي فِي حَوْزَتِهِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَنَالَ رِضَا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ. وَلَا يَرَى نَفْسَهُ أَبَداً مَهْمَا كَانَتْ مَكَانَتُهُ وَمَوْقِعُهُ وَشُهْرَتُهُ وَغِنَاهُ، عَلَى أَنَّهُ فِي وَضْعٍ مُخْتَلِفٍ عَمَّا عَلَيْهِ بَاقِي النَّاسِ. وَيُؤْمِنُ تَمَاماً بِأَنَّ الْفَضْلَ لَا يَكُونُ عِنْدَ اللهِ إِلَّا بِالتَّقْوَى.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ الْأَعِزَّاء!

إِنَّ غَايَةَ الإِسْلَامِ تَكْمُنُ فِي زَرْعِ التَّوَاضُعِ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ مِنْ جَانِبٍ وَإِبْعَادِهِ قَدْرَ الْاِمْكَانِ عَنْ الْكِبْرِ وَالاِسْتِعْلَاءِ مِنْ جَانِبٍ آخَرٍ. لِأَنَّ الْكِبْرَ كَمَا عَبَّرَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ "الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ."[7]

إِنَّ الشَّخْصَ الْمُتَكَبِّرَ يَظُنُّ أَنَّ الدُّنْيَا مَا خُلِقَتْ إِلَّا مِنْ أَجْلِهِ وَحْدَهُ. فَيَشِيحُ بِوَجْهِهِ عَنْ النَّاسِ مُحْتَقِراً لَهُمْ. بَيْدَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَجِبُ أَلَّا يَحْتَقِرَ أَيَّ أَحَدٍ مَهْمَا كَانَتْ الْأَسْبَابُ. وَقَدْ حَذَّرَنَا رَسُولُنَا الْأَكْرَمُ صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْأَمْرِ بِقَوْلِهِ: "إِنَّ اللَّهَ تعالى أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا، حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، ولَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ."[8]

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْأَعِزَّاء!

إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْرِطَ فِي تَوَاضُعِهِ كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي أَيِّ أَمْرٍ آخَرٍ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ مُكَلَّفٌ بِحِفْظِ شَرَفِهِ وَعِرْضِهِ وَشَرَفِ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْرَاضِهِمْ بِقَدْرِ مَا هُوَ مُكَلَّفٌ بِأَنْ يَكُونَ مُتَوَاضِعاً فِي حَيَاتِهِ وَعَيْشِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَقِفُ دَائِماً بِعِزَّةٍ وَجَلَالٍ فِي وَجْهِ كُلِّ مَنْ يَحْتَقِرُ إِخْوَتَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ. كَمَا وَيَعْمَلُ بِكُلِّ مَا أُوتِيَ مِنْ قُوَّةٍ عَلَى أَنْ يَصُونَ شَرَفَ الْمُسْلِمِينَ وَعِزَّتَهُمْ. وَيَتَّبِعَ بِقَلْبِهِ أَمْرَ اللهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ "مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ..."[9]

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْكِرَام!

لِنَعْمَلْ عَلَى أَنْ نَمْلَأَ جَمِيعَ نَوَاحِي حَيَاتِنَا بِالتَّوَاضُعِ. وَلْنَحْرِصْ عَلَى أَلَّا نَجْرَحَ أَحَداً أَوْ نُؤْذِيَهُ. وَلْنَحْرِصْ أَيْضاً عَلَى أَلَّا نَنْخَدِعَ بِمَلَذَّاتِ هَذِهِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ فَنُحْزِنَ بَعْضَنَا الْبَعْضَ. وَلْنَبْتَعِدْ عَنْ الْكِبْرِ وَالْغُرُورِ وَالتَّبَاهِي الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُحَوِّلَ دُنْيَانَا إِلَى سِجْنٍ وَآخِرَتَنَا إِلَى جَحِيمٍ. وَلْنَحْرِصْ كَذَلِكَ عَلَى أَلَّا نَحْتَقِرَ النَّاسَ وَنَتَجَهَّمَ فِي وُجُوهِهِمْ. وَلَا نَمْشِي فِي الْأَرْضِ مَرَحاً بِكِبْرٍ وَاِسْتِعْلَاءٍ. وَلَا نَنْسَى أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ.



 

[1] سُورَةُ الْفُرْقَان، الْآيَةُ 63.

[2] مُسْنَدُ أَحْمَدِ بِن حَنْبَلِ، 3، 76.

[3] صَحِيحُ مُسْلِم، كِتَابُ الزُّهْدِ، 33.

[4][4] صَحِيحُ الْبُخَارِيُّ، كِتَابُ الْأَدَبْ، 61.

[5] صَحِيحُ مُسْلِمْ، كِتَابُ الْبِرِّ، 32.

[6] صَحِيحُ مُسْلِمْ، كِتَابُ الْبِرّ، 69.

[7] صَحِيحُ مُسْلِمْ، كِتَابُ الْإِيمَانْ، 147.

[8] صَحِيحُ مُسْلِمْ، كِتَابُ الْجَنَّة، 64.

[9] سُورَةُ الْفَتْحْ، الْآيَة 29.

                                   المُدِيرِيَّةُ العَامَّةُ لِلْخَدَمَاتِ الدِّينِيَّةِ

إرسال تعليق

أحدث أقدم