أَيُّها المُؤْمِنونَ الأَعِزّاءُ!
دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذاتَ يَوْمٍ إلى الْمَسْجِدِ فَإِذَا هُوَ بِمَجْلِسَيْنِ؛ أحدُهُما قَوْمٌ يذْكرونَ اللهَ تَعالى والآخَرونَ يَتَفَقَّهُونَ، فقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كِلا المَجْلِسَيْنِ عَلَى خَيْرٍ، وأَحَدُهَما أَحَبُّ إليّ مِنْ صاحِبِهِ. أَمَّا هَؤلاءِ فَيَسْأَلُونَ اللهَ تَعالى وَيَذْكُرُونَهُ فَإنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ، وَأَمَّا الْمَجْلِسُ الآخَرُ فَيَتَعَلَّمُونَ الفِقْهَ وَيُعَلِّمُونَ الْجَاهِلَ، وإنما بُعِثْتُ مُعَلِّماً"[1]. فَكانَ (ص) نَبِيّاً يُبَيِّنُ فَضْلَ العِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ بِالمُمارَسَةِ وَالتَّطْبيقِ بِناءً عَلى قَوْلِهِ تعالى: "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ"[2].
إِخْواني! أَعْطَى رَسولُنا الكَريمُ صلى الله عليه وسلم أَهَمِّيَّةً كَبيرَةً لِلْعِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ وَالتَّعْليمِ طِيلَةَ حَياتِهِ. وَكانَ مِنْ أَهْدافِهِ الكُبْرى القَضاءُ عَلى الجَهْلِ، وَتَعليمُ النّاسِ عُلوماً تَأْخُذُهُمْ إلى الحَقِّ وَالحَقيقَةِ، وَتَرْفَعُ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَتُضْفي مَعْنىً على حَياتِهِمْ، فَكانَ (ص) النَّبِيَّ الذي يَتَضَرَّعُ وَيَتَوَسَّلُ إلى اللهِ تَعالى بِهَذا الدُّعاءِ: "اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، وَزِدْنِي عِلْمًا"[3]؛ لِأَنَّ نَبِيَّنا وَرَسولَنا الكَريمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ قَدْ أُنْزِلَ إِليْهِ القُرْآنُ الكَريمُ، فَكانَ أَوَّلَ ما جاءَهُ مِنْ أَمْرٍ هُوَ قَوْلُهُ تعالى: "اِقْرَأْ". وَكانَ ذلِكَ أَوَّلُ خطابِ اللهِ تَعالى لِلْبَشَرِ فَقالَ سُبْحانَه: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ"[4].
إِخْوَتي الأعِزّاءُ!
إِنَّنا نَنْتَمي إلى حَضارَةٍ يَلْتَقِي فيها العِلْمُ مَعَ الحِكْمَةِ، وَيُعْجَنُ فيها العِلْمُ مَعَ المَعْرِفَةِ، وَيَتَحَلّى فيها العالِمُ بِالأخْلاقِ. العِلْمُ في حَضارَتِنا يُعَدُّ مِنْ عِبادَةِ العَقْلِ. وَالعِلْمُ سَعْيٌ لِفَهْمِ حَقيقَةِ الأَشْياءِ وَمَعْرِفَةِ الحِكْمَةِ وَالغايَةِ مِنَ الوُجودِ. وَالعِلْمُ يَعْني أَنْ يَعْرِفَ الإنْسانُ نَفْسَهُ. فَمَنْ يَعْرِفْ نَفْسَهُ يَعْرِفْ رَبَّهُ، وَمَنْ يَعْرِفْ رَبَّهُ يَسْعى لِمَعْرِفَةِ حَقائِقِ الأُمورِ. وَمَنْ يُدْرِكْ وُجودَهُ يُدْرِكْ بَيئَتَهُ وَحَياتَهُ وَالكائِناتِ.
يَنْبَغي لِلْعِلْمِ أَنْ لا يُبْعِدَ الإِنْسانَ عَنْ نَفْسِهِ وَرَبِّهِ وَ عَنِ النَّاسِ. وَيَنْبَغي أَنْ لا يَجْعَلَهُ غَريباً عَنْ بيئَتِهِ وَمُحيطِهِ. ويَنْبَغي لِلْعِلْمِ أَنْ يَحْمِلَ الإنْسانَ إلى الحِكْمَةِ، وَيُخاطِبَ قَلْبَهُ وَروحَهُ. وَالعِلْمُ يَنْبَغي لَهُ أَنْ يَنْعَكِسَ على الحَياةِ خُلُقاً وَوَعْياً بِالمَسْؤُولِيَّةِ، وَيَنْبَغي أَنْ يكونَ أَداةً يَنالُ بِها الإنْسانُ رِضا اللهِ تَعالى.
إِخْواني!
إنَّنا مُكَلَّفونَ بِقِراءَةِ الكائِناتِ ونِظامِ الوُجودِ وَفَهْمِهِ كَماَ نَحْنُ مُكَلَّفونَ بِقِراءَةِ كِتابِ اللهِ وَتَطْبيقِهِ في حَياتِنا. وإِنَّنا مُكَلَّفونَ بِتَحْصيلِ كافَةِ العُلومِ وتَسْخيرِها لِفائِدَةِ الإنْسانِ وَالإنْسانِيَّةِ، وأَنْ لا نَجْعَلَها وَسيلَةً لِتَحْقيقِ المَآرِبِ وَالمَصالِحِ الأنانِيَةِ دونَ مراعاةٍ لمصالِحِ الإِنْسانِيَّةِ. ولا يَجوزُ لَنا بِحالٍ أَنْ نَقومَ بِتَحْصيلِ العِلْمِ مِنْ أَجْلِ إِلْحاقِ الأَذى بِالإنْسانِيَّةِ، وَالإفْسادِ في الأرْضِ، وتَحْويلِها إلى مَكانٍ لا يُمْكِنُ العَيْشُ فِيهِ.
أَيُّها المُؤْمِنونَ الأَعِزّاءُ!
إِنَّ أَوْلادَنا وَشَبابَنا على وَشَكِ أَنْ يَبْدَؤوا عاماً دِراسِيّاً جَديداً. وَالمُعَلِّمونَ سَيُواصِلونَ طَريقَهُمْ في تَرْبِيَةِ أَجْيالٍ تَمْلِكُ وُجْداناً وَرَحْمَةً، وَأَجْيالٍ تَتَمَسَّكُ بِقِيَمِها، وَتَعْمَلُ مِنْ أَجْلِ الأمَّةِ وَالإنْسانِيَّةِ. أَسْأَلُ اللهَ تَعالى أَنْ يَكونَ العامُ الدِّراسِيُّ الجَديدُ خَيْراً عَلى أَوْلادِنا الذينَ هُمْ ضَمانُ المُسْتَقْبَلِ، وَعَلى مُعَلِّمينا المُبَجَّلينَ، وَعلى جَميعِ أُسَرِنا وَأَفْرادِ شَعْبِنا. وَأَسْأَلُ اللهَ سُبْحانَهُ أَنْ يَهَبَ أَبْناءَنا وَأَوْلادَنا عُلوماً يَنالونَ بِها رِضاهُ سُبْحانَهُ، وَيُسَخِّرونَها في خِدْمَةِ العالَمينَ.
بِهَذِهِ المُناسَبَةِ أَوَدُّ أَنْ أُذَكِّرَ أَوْلِياءَ الأمورِ بِأَمْرٍ هامٍ. أَوَدُّ أَنْ أَقولَ لَهُمْ: تَعالَوْا لا نُهْمِلْ مَسْؤولِيّاتِنا تِجاهَ أَوْلادِنا في تَعْليمِ القُرْآنِ الكَريمِ، وَلْنَكُنْ عَوْناً لَهُمْ على أن يَنْهَلوا مِنْ أَجْوائِهِ المَعْنَوِيَّةِ، وَيَدْرُسوا حَياةَ سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ (ص)، فَحَياتُهُ قُدْوَةٌ لَنا في حَياتِنا جَميعاً. تَعالَوْا نُرْشِدْ أَوْلادَنا حَتّى يَخْتاروا دُورسَ القُرْآنِ الكَريمِ وَحَياةِ رَسولِ اللهِ (ص) التي يَتِمُّ تَدْريسُها بِصُورَةٍ اِخْتِيارِيَّةٍ في مَدارِسِنا.
إِخْوانيَ الأَفاضِلُ!
قَبْلَ أَنْ أَخْتِمَ خُطْبَتي أَوَدُّ أَنْ أَتَشارَكَ وَإِيّاكُمْ أَمْريْنِ. فَيَوْمَ الأَرْبِعاءِ المُقْبِلِ سَنَبْلُغُ أَوَّلَ أَيّامِ العامِ الهِجْرِيِّ الجَديدِ. وبِهَذِهِ المُناسَبَةِ أُقَدِّمُ لَكُمْ أَحَرَّ التَّهاني. وَالأَمْرُ الآخَرُ هو أَنَّ رِئاسَةَ الشُّؤونِ الدِّينِيَّةِ أَطْلَقَتْ بِالتَّعاوُنِ مَعَ وَقْفِ الدِّيانَةِ التُّرْكِيِّ حَمْلَةً لِمُساعَدَةِ إِخْوانِنا في أَرَقانَ. في إِطارِ هَذِهِ الحَمْلَةِ سَيَتِمُّ اليَوْمَ في جَميعِ جَوامِعِنا وَمَساجِدِنا جَمْعُ التَّبَرُّعاتِ مِنْ أَبْناءِ شَعْبِنا العَزيزِ. وسَنَعْمَلُ على إيصالِ هَذِهِ المُساعَداتِ وَالتَّبَرُّعاتِ إلى إِخْوانِنا المَظْلومينَ في أَرَقانَ، لِنَكونَ لِجِراحِهِمْ مَرْهَماً وَدَواءً. أَسْأَلُ اللهَ تَعالى أَنْ يَتَقَبَّلَ أَعْمالَكُمْ وَحَسَناتِكُمْ، وَأَنْ يُحافِظَ على بَلَدِنا وَشَعْبِنا الكَريمِ الذي هُوَ أَمَلُ المَظْلومينَ وَالمَساكينَ.
[1] الدرامي، المقدمة، 32.
[2] الزمر، 39/ 9.
[3] الترمذي، الدعوات، 128.
[4] العلق، 96/ 1-5.
من إعداد المديرية العامة للخدمات الدينية